كانت الحركة في المكان أشبه بخلية نحل ، الجميع يعمل رغم طول الرحلة وكثرة المشاق التي كابدناها للوصول إلى هذه القرية أعلى الجبل ،
في الحقيقة لم يركن للراحة إلا "أنا " ، لكنني لم أتمكن مما أردت لنفسي ،
فمداعبات نور الدين بين الحينة والأخرى كانت كفيلة ببعض الكدمات المؤلمة التي تعرف كيف تنازع الراحة سبيلها .
مددت بصري إلى السماء التي اكتست بثوب أزرق مطرز الأطراف بزخرفة تتدرج إلى الحمرة ،
وارتفعت روحي مع نقاء لونها وروعته ، ليظهر في الأفق -فجأة- وبصوت يكفي أنه تسبب في انتقالي إلى أسفل الصخرة التي كنت مستلقيا عليها بقفزة لولبية لا إرادية ،
رجل يسابق الزمن في سباق قارب على الانتهاء ، قد انحنى ظهره ليتوافق مع الرقم "ستة" ،عيناه رغم انسدال بعض الجلد وبروز الكثير من زوائده عليها إلا أنها تبدو مريحة ؛
وهناك أسفل الصخرة ومع نظرات تغدو وتروح ، انطلقت منه أصوات توحي بكلام للغة لا أظن أني سمعت بمثلها قط ، فآثرت السلامة .. بابتسامة .
ظللنا على تلك الحال من تبادل الأصوات غير المفهومة بابتسامتي السحرية ، حتى ظننت أن سحرها لا يؤثر عليه ، فما زال ينطق بالمشكل والملتبس من الأصوات ، إلى أن جاء أحدهم لينقذ الموقف ، ويخبرني بأن الرجل يريد معرفة أين ذهب جلدي ؟!!
لقد كنت بالرغم من ميل بشرتي إلى لون قمح بلادي ، وغناها بشمسها المتسبب في سمرتي ، إلا أني كنت معتبراً عندهم من منزوعي الجلد المسمى بـ ((الباتوري)) أي عديم الجلد ، فهو يملك الجلد وأنا قد حرمني الله منه -من وجهة نظره البحتة- فالحمد لله على كل حال . !!
......................
في تلك الزاوية وتحت شجرة من نوع لم أشاهده قبلا ، تحلق القوم حول أبي ،
اقتربت فوجدته أمام عجوزين وبجواره الجوشاوي يحلق في عالم الأصوات والكلمات ليصل بينهم في ما لا تقدر على فعله العيون والنظرات .
لقد أعرض العجوزان عن الإسلام أيما إعراض ، وأشاحا بوجههما عنّا ، استمات أبي ليقنعهما ، وكرر المحاولة ، لكن .. دونما فائدة ،
لم يكن يحاول إقناعهما بوحدانية الخالق ، أو بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ،
بل كان يقنع أحدهما بأنه عندما يموت لن نغطيه بورق الشجر الذي لا يعجبه ملمسه ، ولا يحب ثمرته ، فقد رأى العجوز أصحاب هذا الدين يصنعون ذلك بموتاهم ، ولا يروق له هذا الأمر .
وعده أبي أنه لن يصنع له ذلك وأن هذا ليس من تعاليم هذا الدين ، فقال : أنتم تضحكون علي ، ستغطونني بهذه الأوراق عندما أموت ولن أستطيع حينها منعكم .. أنتم تخدعونني !!
أما صاحبه فقد أعرض لأن أبناءه منذ أسلموا تركوه وحيدا ونزلوا إلى المدينة وقطعوا صلتهم به ، فكيف يعتنق الدين الذي فرق بينه وبين أبنائه ؟؟
كان اليأس حليفنا عندما بدأ الظلام يلف المكان ، فاستسلمنا ، وذهب كل منا إلى حال سبيله ،
لكن من بعيد ، كان ذلك العجوز رقم "ستة " يراقب الموقف منذ بدايته ،
وعندما همّ أبي بالانصراف أقبل بخطى مسرعة ، وبضربات عكاز تترك أثرها على الصخر ، وتوقف فجأ ، ونادى
فالتفت الجميع ، وأقبل عليه أبي مبتسما ، سلم عليه ودعا له بالصحة ،
فنظر إلى الجوشاوي وقال له : أخبر هذا الرجل أني أريد أن أدخل في هذا الدين الذي جاء به من بلاده إلى هنا ليحدثنا عنه ،
فما كان من أبي إلا أن كبّر تكبيرة ، كبّر بعدها الشباب تكبيرة اهتز لها الجبل ، وسرت بي قشعريرة إثر صداها .
.................
في المساء كان الأطفال مجتمعين في حلقات نورانية يتعلمون قراءة الفاتحة ، بأصواتهم العذبة التي يخرج منها القرآن لأول مرة ، عذبا رقراقا ،
ورغم خروج الحاء بصيغة الهاء ، والعين بالهمزة ، إلا أن عيونهم كانت تشع ضياء ، فيالنور الإسلام ،
لكأني في دار الأرقم .....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق